الإعجاز التشريعي والسبق العلمي

علم الاجتماع الإسلامي سبق مبادئ الغرب لعلم الاجتماع بقرون

الإعجاز التشريعي والسبق العلمي

د. محمد البرزنجي

علم الاجتماع الإسلامي سبق مبادئ الغرب لعلم الاجتماع بقرون. بل أكثر من ذلك، فقد وصل إلى ما لم تصله علوم الاجتماع الغربية إلى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال - وكما سنبين بعد قليل -، وكي لا نطيل في المقدمة، ندخل في صلب الموضوع، فنقول وبالله التوفيق: 

منذ القدم، والملايين من البشر لا يجدون مؤهلًا علميًا أو خبرة في صنعة أو تجارة كي يكتسبوا لهم ولأهلهم، وإنما الشئ الوحيد الذي يتقنوه هو العمل في البيوت تحت مسميات مختلفة، مثل شغال وخادم وغير ذلك. والبشر، ومنهم الغربيون، ينظرون إلى هذه الطبقة نظرة استعباد، بينما التشريع الإسلامي أسّس لمبادئ رائعة وأُسُس واضحة للتعامل الاجتماعي مع هذه الشريحة، إذ أمرنا: 

أولاً: أن نعطيهم أجورهم مستوفاة حسب الاتفاق بين الطرفين، وحسب الوقت المتفق عليه، قال رَسول الله (): "أعطُوا الأجيرَ أَجْرَه قبلَ أن يجِفَّ عَرَقُه" - حسنه الهيثمي في كتاب الزواجر ٢٧٣/١، وصححه لغيره كتاب صحيح الترغيب ح ١٨٧٧ -. 

وقد حذر - عليه الصلاة والسلام - من عقوبة أخروية قاسية لمن غدر بهم، فلم يعطهم أجورهم، فقال (): "قالَ اللَّهُ (في حديث قدسي): ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ.. وفي آخر الحديث: ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولَمْ يُعْطِ أجْرَهُ" - صحيح البخاري ح ٢٢٧٠ -. 

ثانيًا: أن لا نتميز عنهم بملبس ولا طعام ولا شراب، كما قال عليه الصلاة والسلام: "إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، ولْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ" - صیيح البخاري ح ٣٠ -. 

ثالثًا: أن لا يكون العمل المطلوب منهم أداؤه فوق طاقتهم وقدرتهم الجسدية، وإلا علينا أن نشاركهم في إنجاز العمل، فقال عليه الصلاة والسلام: "ولَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ" - صحيح البخاري، الحديث السابق -. 

وهنا أسأل سؤالًا بسيطًا جدًا: من منا لم يشاهد الخدم في الأفلام الوثائقية أو أفلام هوليود، حيث الخدم في الغرب، والى يومنا هذا، يلبسونهم ثيابًا تميزهم عن بقية ساكني المنزل، بينما التعليمات النبوية الشريفة تمنع التمايز عنهم أو تمييزهم بلون وشكل معين، كي لا يشعروا بأنهم أقل درجة من أهل البيت، بل إن هذا الإنسان الذي يخدم في بیت معين يملك من الطاقات والقابليات ما لا يملكه أهل الدار، فلماذا التمايز والتمييز الاجتماعي؟؟ 

نعم إنه شئ جميل أن يلبسوا ملابس أنيقة وجميلة، ولكن أن نقيدهم بألوان محددة وأشكال معينة لملابسهم فهذا ما تجنبه التشريع الإسلامي حفظًا لكرامتهم الإنسانية، وهذا سبق تشريعي لم تصل إليه حضارة الغرب الى يومنا. 

ثم الأروع من ذلك أن لا تكلف الخادم أو العامل فوق طاقته، ولو حصل ذلك فعلى صاحب المنزل أن يعينه بنفسه.. سبحان الله، أي رقي هذا؟ وأية رحمة هذه؟ إنها حقًا تعاليم من خالق البشر وبارئ النفس البشرية، ولم يكن جميع فلاسفة ذلك الوقت - أي وقت نزول الوحي - ولا عقلاؤهم، ولا حتى علماء الاجتماع الغربيون اليوم، ليفكروا في هذا المستوى الرفيع من مراعاة حقوق الإنسان الجسدية والنفسية... حقًا إنها من دلائل نبوته - عليه الصلاة والسلام -، فلم يخطر على بال البشرية في ذلك العصر شيءٌ متعلق بحقوق الإنسان، بل إن كرامته كانت مهدورة تحت أقدام كسرى وقيصر.. وأما عند العرب، في الجزيرة، فلم يكن للإنسان الفقير اعتبار ولا للمرأة اعتبار، فما بالك بالخادم والأجير؟ إذ كانوا طبقة مسحوقة مظلومة، ولم يفكر فيهم أحد من الناس، فمن أين أتت هذه التوجيهات الراقية الدقيقة التي تراعي أخص خصوصيات النفس البشرية وحالته الاجتماعية؟ حقًا لا أجد جوابًا عن هذه التساؤلات إلا في قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى: ٥٢). 

وهذا لا يعني أن الخدم في بلاد المسلمين اليوم - وقد ابتعدوا عن تحكيم شرع الله- في عيش رغيد وظل ظليل، بل منهم السعيد ومنهم المتعب البئيس، وهذا ظلم واقع عليهم مخالف لشرع الله، ومخالف للرحمة التي جاءت بها الشريعة السمحاء من عند خالق العالمين. 

إن مراجعة بسيطة لتقارير منظمة العفو الدولية تبين مدى الكارثة التي حلّت بالبشرية في هذا العصر من انتهاك فظيع لحقوق الإنسان، وخاصة فيما يتعلق بحقوق النساء اللواتي يخدمن في المنازل، ومنهن عدد من طالبي اللجوء. وهذه الانتهاكات تتراوح بين الحرمان من الأجور المستحقة, والحرمان من وقت الراحة، والإهانة النفسية، وحتى التحرش الجنسي، والاعتداء بالضرب.. وتقارير المنظمات الدولية بهذا الشأن متوفرة لكل القراء على المواقع الرسمية وشبكات التواصل.. 

نسأل الله أن يرفع الظلم عن المظلومين وأن يترسخ العدل الاجتماعي في ربوع المعمورة.. آمين.