جنـــود لِله.. شاؤوا أم أَبَوْا

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۝ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ۝﴾

جنـــود لِله.. شاؤوا أم أَبَوْا

د. حيدر عاصم محمد صالح

استشاري الجراحة العامة والجراحة المنظارية

 

قدر الله تعالى أن تكون العلوم ومدارسها اليوم بيد العالَم الغربي، عالَمٍ يؤمن بالعولمة، ويوظف الكثير من معطيات المال والقدرات لخدمة العلم.

بل إنَّ شَغَفَ هذه المجتمعات بالعلم جعلها توظف إمكانات كبيرة لخدمة هذا المجال.

وهل هذا الشغف جاء صُدْفةً؟ أم جاء بناءا على الفطرة التي خلق الله عليها النفس البشرية؟ 

الجواب واضح, فحب النفوذ والسيطرة والقوة والمال والسلطة هي من خصائص النفس البشرية, والتي خيّر الله عباده بين توظيف هذه الخصائص لخدمة الخير أو الشر, والكل مخيَّرُكما قال الله سبحانه وتعالى:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۝ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ۝﴾ (الشمس: ٧-١٠)

ونتيجة لهذا التسابق قام العلماء بكثير من الاكتشافات العلمية بفضل الله..  

وهنا حصلت المفاجئة.. فبعد أن سجّل علماء الغرب اكتشافاتهم, تبين لهم بأن العديد من الأمور التي تم التوصل إليها مسجلة في كتاب الله, أو تم الإخبار عنها من قبل سيدنا محمدٍ رسول الله ()..  

على سبيل الذكر لا الحصر: 

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (فصلت: ١١). لمّا تُلِيَتْ هذه الآيات في المؤتمر العلمي للإعجاز القرآني الذي عقد في القاهرة وسمع البروفيسور الياباني (يوشيدي كوزاي) تلك الآية, نهض مندهشاً وقال: لم يصل العلم والعلماء إلى هذه الحقيقة المذهلة إلا منذ عهد قريب بعد أن التَقَطت كاميرات الأقمار الاصطناعية القوية صوراً وأفلاماً حية تظهر نجماً وهو يتكون من كتلة كبيرة من الدخان الكثيف القاتم, ثم أردف قائلاً: إن معلوماتنا السابقة قبل هذه الأفلام والصور الحية كانت مبنية على نظريات خاطئة مفادها أن السماء كانت ضباباً. 

وقال الله أيضا: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (الأنبياء: ٣)... لقد بلغ ذهول العلماء في مؤتمر الشباب الإسلامي الذي عقد في الرياض عام ١٩٧٩م ذروته عندما سمعوا الآية الكريمة وقالوا: حقاً لقد كان الكون في بدايته عبارة عن سحابة سديمية دخانية غازية هائلة متلاصقة ثم تحولت بالتدريج إلى ملايين الملايين من النجوم التي تملأ السماء. عندها صرح البروفيسور الأمريكي (بالمر) قائلاً: إن ما قيل لا يمكن بحال من الأحوال أن ينسب إلى شخص عاش قبل ١٤٠٠سنة, لأنه لم يكن لديه تليسكوبات ولا سفن فضائية تساعد على اكتشاف هذه الحقائق, فلا بد أن الذي أخبر محمداً هو الله. وقد أعلن البروفيسور(بالمر) إسلامه في نهاية المؤتمر. 

وقال الله تعالى : ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ (الذاريات: ٤٧)... وقد أثبت العلم الحديث أن السماء تزداد سعة باستمرار. 

وقال الله تعالى أيضا: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ (يس: ٣٨). وقد أثبت العلم الحديث أن الشمس تسير بسرعة ٤٣٢٠٠ ميل في الساعة وبما أن المسافة بيننا وبين الشمس ٩٢ مليون ميل فإننا نراها ثابتة لا تتحرك.

وقال الله تعالى أيضا: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ۝ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ۝﴾ (الرحمن : ١٩-٢٠).. لقد تبين من خلال الدراسات الحديثة أن لكل بحر صفاته الخاصة به والتي تميزه عن غيره من البحار, كشدة الملوحة والوزن النوعي للماء, حتى لونه الذي يتغير من مكان إلى آخر بسبب التفاوت في درجة الحرارة والعمق وعوامل أخرى، والأغرب من هذا اكتشاف الخط الأبيض الدقيق الذي يرتسم نتيجة التقاء مياه بحرين ببعضهما. وهذا تماماً هو ما ذكر في الآيتين السابقتين. وعندما نوقش هذا النص القرآني مع عالم البحار الأمريكي البروفيسور (هيل) وكذلك العالم الجيولوجي الألماني (شرويدر), أجابا قائلين: إن هذا العلم إلهي مئة بالمئة.  

وفي مجالنا الطبي لا يخفى على أحد قول الله تعالى:﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ۝ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ۝ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۝﴾ (المؤمنون: ١٢-١٤).

لقد وصف الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات تطوّر الجنين من نطفة إلى علقة فمضغة، بدقّة شديدة وبصورة معجزة موجزة، وذلك قبل الوصول إلى حقائق علم الأجنّة الحديث بمئات السنين على أرض قاحلة، لا علم فيها ولا معلّم، ولا تقدّم ولا تكنولوجيا. وقد استحقّ هذا الأمر المدهش لفتة كريمة من واحد من كبار علماء الأجِنَّة في العالَم: وهو العالِم الكندي كيث مور (Keith Moore). ففي فصل "التوطئة" (Introduction) من كتابه الجامعي في علم الأجنّة، المعتمد في الكثرة الكاثرة من كليات الطب حول العالم، يقول "مور": إن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي ذكر قبل زمننا المعاصر بدقّة متناهية مراحل تطوّر الجنين.  

فالنطفة هي البداية التي تليها العلقة التي "تعلق" بغشاء الرحم، والمضغة هي الجنين بعد بضعة أسابيع من نشوئه، حين يشبه عجينة ممضوغة مع ما يظهر عليها من أثر غرز الأسنان والأضراس، وذلك وفق آخر ما جاءت به براهين تقنيات الطب في مجال التصوير والأشعّة الحديثة. 

 وكذلك نشوء العظام قبل اللحم هو من الحقائق القرآنية التي توافق حقائق علم الأجنَّة الحديث.  

وأحبّ أن أشير إلى أمر آخر ورد في الآية الكريمة: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۚ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ﴾ (الزمر: ٦). في هذه الآية إشارة صريحة وواضحة إلى الظلمات الثلاث التي تلفّ الجنين في أحشاء أمّه، وهي، كما أظهرها علم الأجنّة الحديث: ظلمة جدار البطن، وظلمة جدار الرحم، وظلمة أغشية المشيمة. وخلاصة القول إن القرآن الكريم سيظلّ معجزة المعجزات، سواء اعترف به "الساينس" أم لم يعترف، وسواء وُفِّقَ العاملون في الإعجاز العلمي في أبحاثهم وتأويلاتهم, أم لم يُوَفَّقوا. 

وغير هذه الأمثلة هناك الكثير لمن يريد أن يبحث. 

ولكن هل ذلك كله صدفة؟؟ 

الجواب: لا..  فحتى هذه الأمور أقرها الله سبحانه وتعالى منذ أكثر من ١٤٠٠ سنة وأوضحها قائلاً في كتابه العزيز في سورة لا بسملة فيها:

﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ۝ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ۝ (التوبة ٣٢-٣٣)  

وعاد رب العزة ليؤكد التحدي في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ۝ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ۝  (الصف ٨-٩) 

وأكّد رب العزة نصره لدينه في موضع آخر من كتابه العظيم فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا (الفتح:  ٢٨) 

لقد تحدى الله الكافرين والمشركين, كما ذكرت, بل جعلهم يوظفون أوقاتهم وأموالهم وسنين من أعمارهم وعقولهم خدمة لدين الله من حيث لا يشعرون فجعلهم جنوداً له رغم أنوفهم.. رغم عنادهم.. رغم عدائهم..  

فهم الآن أمام خيارين لا ثالث لهما:

الأول: ان يستمروا بمنهجهم العلمي, فيكونوا -رغماً عنهم- جنودا لله, وألسنتهم وأقلامهم وبحوثهم تظهر للناس يوماً بعد يوم أن الاسلاَم دين اللهِ الحق, كما وعد الله سبحانه في كتابه العزيز, حيث قال: 

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(فصلت: ٥٣)

فهي شهادة من الله سبحانه بأن الكافرين سيستمرون بمعرفة آيات الله وإعلانها وتوثيقها ظناً منهم أنهم يحققون إنجازاً لذاتهم, ليكتشفوا بعد ذلك بأنهم أقروا أمراً كان الله قد صرح به منذ زمن بعيد, فيصيبهم الذهول, ولا يملكون إلا الاعتراف بأن كتابَ الله و دینه هو الحق. 

الخيار الثاني: أن يكبتوا غرائزَهم العلمية, ويتوقفوا عن الدراسات والاكتشافات حتى لا يكونوا جنداً لله رغماً عنهم. وهو أمر لن يقدروا عليه.