القرآن الكريم بين فهم العامة ومعرفة الخاصة
إنّ من يقرأ القرآن الكريم لا يجد صعوبة في فهمه
أ.م.د. آزاد عبدول رشيد/ جامعة جرمو
إنّ من يقرأ القرآن الكريم لا يجد صعوبة في فهمه، لأنّ ألفاظه وصياغته سهلة، عذبة، سلسة، غير متكلفة، وتعابيره واضحة ومعانيه قريبة المنال، لاتعقيد فيها ولا غلو، وإذا كان الأمر كذلك فأين نجد فيه البراعة والتفوق على كلام البشر.
إنّ سهولة الأسلوب والسبك في أي نص لا يعني بالضرورة أنّه يستطيع كلّ إنسان أن يأتي بمثله، قد يستطيع البعض أن يأتي بالمتكلف الصعب من الصياغة ولكنه يتعذر عليه السهل والسلس من الصياغة الجميلة الموحية كما عند كبار الكتّاب، فنرى الإتيان بالسهل أصعب من الإتيان بالمتكلف، وقال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه حول هذه المسألة: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (القمر: ١٧). أي: ((ولقد سهلنا القرآن وهوّناه لمن أراد التذكر به والاتعاظ)) (تفسير الطبري) إذن فالسهولة في قراءة القرآن وفهم مراده ومذاكرته من حكمة الله، وقد أشار إلى ذلك ابن الأثير بقوله: ((وقد أنزل في زمن العرب العرباء، وألفاظه كلها من أسهل الألفاظ وأقربها استعمالا، وكفى به قدوة في هذا الباب. قال النبي (ﷺ): (ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني) [رواية الإمام أحمد] يريد بذلك فاتحة الكتاب، وإذا نظرنا إلى ما اشتملت عليه من الألفاظ وجدناها سهلة قريبة المأخذ، يفهمها كل أحد حتى صبيان المكاتب وعوام السوقة، وإن لم يفهموا ما تحتها من أسرار الفصاحة والبلاغة، فإنّ أحسن الكلام ما عرف الخاصة فضله، وفهم العامة معناه.)) [المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ابن الأثير، دار نهضة مصر، ١/١٧٨.]، نفهم من ذلك أنّ القرآن الكريم لم ينزل للعامة أو الخاصة فقط، بل قسّم الله سبحانه وتعالى الدرر الثمينة فيه ما بين الناس، كلّ يأخذ منها على حظه من الفهم والإدراك والمعرفة.
ونريد هنا أن نلقي بعض الضوء على ما لا يدركه العامة في سورة الفاتحة المذكورة في الرواية التي سقناها آنفاً، فنتحدث عن صلتها بما بعدها من الآيات والسور، بشكل مبهر دال على حسن الصياغة وجودة السبك القرآني، وفهم هذا مما لا يتأتى إلا للذين أوتوا نصيباً من العلم بمناهج البحث العلمي والتأليف.
إن سورة الفاتحة التي تقع في بداية التنزيل الحكيم هي بمثابة المقدمة في أبحاث الآدميين، لابد أن تشتمل على عصارة ما ذكر في متن الموضوع الذي يأتي بعدها، أو دليلاً عليه.
نرى السورة مقسمة على قسمين: قسم لله تعالى وآخر للعبد، كما تذكر الروايات [رواية مسلم والسنن الربعة]، فالقسم الأول الذي: ﴿﷽ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ...﴾ (الفاتحة: ١-٤) هو لله تعالى، نستطيع أن نقول بأنه يشترك العام والخاص في فهمه وتلاوته، إذ به تتحقق العبودية الكاملة تحته لجميع البشر، وتتفرد الخاصة بأمور أخرى في فهمه، منها: فمثلاً نرى السورة تبدأ بـ(بِسْمِ اللَّهِ) والقرآن تنتهي آخر آية منه بـ(مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) إشارة إلى أن هذا القرآن منزل من (الله) إلى هاتين (الطائفتين من المخلوقين)، وبذلك نفهم أنّ كلّ ما يقع بينهما جاء من الله لصلاح البشر والجن أيضاً. وكذلك تفتتح سورة الفاتحة بـ(لله، ربّ، مالك)، فبهذه الكلمات تشير إلى توحيد الألوهية والربوبية وصفات الله سبحانه وتعالى، وإنّ القارئ هنا يقرّ بهذا التوحيد، خاضعاً مذعناً وداعياً به، أمّا في سورة الناس نرى هذا العبد القارئ للقرآن يستعيذ بالله الذي يتفرد بالربوية والألوهية والصفات العلى، في قوله: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَٰهِ النَّاسِ ﴾ (الناس: ١-٣) ويكرر الكلمات الثلاث ملتجئاً إليها، وبذلك نصل إلى النقطة التي بدأنا منها في سورة الفاتحة، ونسمي هذا النوع من البناء في الأعمال الإنسانية بالبناء الدائري، ما يعني أنّنا مهما حاولنا لا نستطيع الخروج عن هذه الدائرة لا في الدنيا ولا في الآخرة، إن أردنا صلاحنا.
والقسم الثاني هو: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ (المدثر: ٥-٧) ففي هذا القسم من السورة قد نرى تفرد الخاصة بزيادة كبيرة من الفهم وإدراك المراد منه، إذ يحثهم على التفكير والتدبر أو البحث عن (الصراط المستقيم)، فعندما يسألون الهداية، فيحيلهم إلى ما بعده من السور الأخرى في القرآن الكريم.
فيجيبهم مثلاً في بداية سورة البقرة بلفظ (الهداية) نفسها: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ (البقرة: ٢-٣) أي: عندما تسألون الهداية فهذه هي الهداية تبدأ هنا، والهداية هي أن تؤمنوا بالغيب، مع أداء الصلاة وإيتاء الزكاة.
وتفصيل ذكر ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة: ٧) يأتي في ثنايا سورة البقرة وفيما بعدها أيضاً. ولكن يبقى مسألة (الإيمان والمؤمنون والغيب) المذكورة في بداية السورة (البقرة) بحاجة إلى شيء من التفصيل أو التحديد ويأتي ذلك التفصيل في نهاية السورة نفسها في الآية الأخيرة وهي: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة: ٢٨٥) وهكذا لو يتأمل متأمل يرى التحام السور مع السور والآيات مع الآيات، بشكل مدهش ينمّ عن متانة سبك القرآن الكريم وأنه تنزيل من رب العالمين ﴿لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت: ٤٢)، و ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (النساء: ٨٢).