العدل والقضاء المستقل والإعجاز التشريعي
د. محمد البرزنجي .. المحامي محمد رؤوف
بسم الله والحمد لله
من مراجعة سريعة لنصوص الكتاب والسنة المتعلقة بالقضاء وإقامة العدل في مجلس القضاء يتبين لنا أن المقاصد والأحكام التفصيلة فيها سبق تشريعي عظيم يؤكد بلا أدنى شك أن هذا التشريع من عند الله خالق الإنسان ومبدع الأكوان، وهذه بعض النصوص المتعلقة بهذه المسألة:
أولًا: ما يتعلق بالقاضي وأساس تعامله مع الخصومات:
١. الاستماع الى الخصمين بالتساوي، والمساواة بين الناس جميعًا بلا استثناء أمام القضاء:
بالإضافة الى الآيات القرآنية التي تحدثت عن هذه المسألة، كقوله تعالى: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾ (ص: ٢٢).. نقول: بالإصافة الى هذه الآيات التي تحدثت عن هذه المسألة، هنالك نصوص نبوية شريفة متعلقة بالموضوع، كما في حديث سيدنا علي (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (ﷺ): "إذا تقاضَى إليكَ رجلانِ فلا تقضِ للأوَّلِ حتَّى تسمعَ كلامَ الآخرِ، فسَوفَ تدري كيفَ تقضي" - سنن الترمذي، كتاب الأحكام، ح ١٣٣١، وقال حديث حسن -.
٢. الاعتماد على الأدلة والقرائن بدل الادعاء الذي لا يستند الى دليل:
قال رسول الله (ﷺ): "لو يُعْطَى الناسُ بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" - صحيح البخاري، ح ٤٥٥٢ -، وأخرجه الحافظ البيهفي وغيره بلفظ: "البينةُ على المُدَّعي واليمينُ على من أنكرَ"، قال ابن حجر: "هذه الزيادة ليست في الصحيحين وإسنادها حسن" - الفتح ٣٣٤/٥ -
٣. المساواة بين الناس أمام القضاء، بين فقيرهم وغنيهم وضعيفهم وقويهم:
قال رسول الله (ﷺ): "فإنَّما أهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ: أنَّهُمْ كانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقامُوا عليه الحَدَّ" - صحيح البخاري ح ٤٣٠٤ -.
٤. توفير الأجواء الملائمة لمحاكمة عادلة، ومنها كون القاضي غير مشوش الفكر:
"لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بيْنَ اثْنَيْنِ وهو غَضْبَانُ" - صحيح البخاري ح ٧١٥٨ -. وللإمام الشافعي استتباط رائع من هذا النص؛ إذ يقول في كتابه (الأم): "ومعقول من الحديث أن المراد أن القاضي لا ينبغي أن يحكم في الحالة التي يتغير فيها عقله وخلقه، وأنه يلتحق بالغضب المرض والحزن والفرح والجوع والنعاس والملال، وسائر ما يغير الخلق والطبع، ولكن يتوقف ويتأنى حتى يثوب إليه عقله" - كتاب الأم للشافعي، ٨/ ٤٠٧.
ثانيًا: ما يتعلق بالمحامي وموكله، سواء كان المدعي أو المدعى عليه:
١. تذكير المتخاصمين بتقوى الله، كي يساعدوا القاضي على اتخاذ القرار العادل:
حديث أم سلمة: قالت: قال رسول الله (ﷺ): "إنَّما أنَا بَشَرٌ، وإنَّه يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أنْ يَكونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ أقْضِي له بذلكَ، وأَحْسِبُ أنَّه صَادِقٌ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا" - صحيح البخاري، ح ٧١٨٥ -.
٢. درء الحدود بالشبهات:
لقد استنبط الفقهاء من أفعال النبي (ﷺ) وأحكامه في القضاء، أنه كان يدرء الحدود بالشبهات، أي - بمصطلح العصر - يدفع أو يؤخر تنفيذ العقوبات بمجرد وجود شبهة في القضية.. وكذلك كان فهم الصحابة، كما روي عن سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قوله: "لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات" - مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الحدود، باب درء الحدود بالشبهات، ح ٢٨٤٩٣ -. وكذلك روي عن عدد من الصحابة، كعقبة بن عامر، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، قولهم: "اذا اشتبه عليك الحد فادرأه" - مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الحدود، باب درء الحدود بالشبهات، ٢٨٤٩٤ -. وفي هذا حفظ للأرواح والحقوق، فلعل تأخير تنفيذ العقوبة يعطي فرصة لظهور حقائق أخرى عن جريمة معينة، فتتضح ملابسات الواقعة، وكم من برئ قضى نحبه في السجون ثم تبين فيما بعد براءته، لذا قال بعض الفقهاء: "أن تخطئ في العفو خير مائة مرة من أن تخطئ في العقوبة".
ثالثًا: نصوص تتعلق بتعدد طرق التوثيق، كالشهود والكتابة، كقوله تعالى" ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ...﴾ (البقرة: ٢٨٢).
رابعًا: نصوص تتعلق بإدلاء الشهادة، وحث الشاهد على أداء شهادته، كقوله تعالى: ﴿...وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ...﴾ (البقرة: ٢٨٣)، وتهيئة الأجواء الآمنة للشاهد - وبمصطلخ العصر: قانون حماية الشهود - حتى يدلي الشاهد بشهادته وهو مطمئن غير خائف؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ...﴾ (البقرة: ٢٨٢).
هذه التفاصيل الدقيقة لم تكن معروفة تمامًا في مجتمع الحجاز والجزيرة، ولا في ثقافات المجتمعات المجاورة قبل ألف وأربعمائة عام، وإنما بعض هذه المقاصد من إقامة العدل لم تظهر للعلن إلا في القرن الماضي؛ على سبيل المثال: قانون حماية الشهود لم تظهر في أمريكا، الملقبة بأم الديمقراطية، إلا في عام ١٩٧٦م.. فمن أين أتى النبي (ﷺ) بأمور تتحدث عما يعرف اليوم بقانون حماية الشهود، وتهيئة البيئة المناسبة لجلسات القضاء، وتوثيق الوقائع، والتوغل حتى في نفسية القاضي والمتخاصمين.. حقاً إن مدلولات هذه النصوص النبوية الشريفة، والنصوص القرآنية الكريمة، من دلائل نبوته - عليه الصلاة والسلام - وفتح عظيم في باب الإعجاز التشريعي.